سورة الأنبياء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الذين سبقت لهم منا الحسنى} أي: الخصلة الحسنى، أو المشيئة الحسنى، وهي السعادة، أو التوفيق للطاعة، أو البُشرى بالثواب، {أولئك عنها}: عن جهنم {مبعدون}؛ لأنهم في الجنة، وشتان ما بنيهما. قال القشيري: لم يقل متباعدون؛ ليَعْلَم العابدون أن المدارَ على التقدير وسبق الحكم من الله، لا على تَبَاعد العبد وتَقَرُّبه. اهـ. وكأنه يشير لقوله: «هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي»، أي: بأعمالهم.
{لا يسمعون حَسِيسَهَا} أي: صوتها الذي يحس، وحركة تلهبها، وهذه مبالغة في الإبعاد، أي: لا يقربوها حتى لا يسمعوا صوتها أو صوت من فيها. قال الكواشي: لا يسمعون صوت النار وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم من الجنة. اهـ. وقال ابن عطية: وذلك بعد دخولهم الجنة؛ لأن الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا خرَّ على ركبتيه. اهـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: محمل الحديث، إن صح في حق الأنبياء والأكابر، على شهود الجلال والإجلال لله تعالى، ولذلك يقولون: «نفسي نفسي»، لا من خوف النار. اهـ.
قلت: أما كون الناس يُصعقون يوم القيامة، فيكون المصطفى أول من يفيق، فثابت في الصحيح، أما سبب الصعقة فقد ورد في غير البخاري: «أنه يُؤتى بجهنم، ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، ثم تزفر زفرة، فلا يبقى نبي ولا ملك إلا خرّ».. الحديث، ويؤيده قوله تعالى: {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفَجر: 23] والأنبياء- عليهم السلام- بَشَر عبيد، قد تعمهم القهرية، ولا تقدح في منصبهم، وليس صعقهم خوفًا، لكن غلبة ودهشًا، كما صعق موسى- عليه السلام- عند الرؤية، ونبينا- عليه الصلاة والسلام- حين تجلى له جبريل على صورته. والله أعلم. وقال جعفر الصادق: وكيف يسمعون حسيسها، والنار تخمد بمطالعتهم، وتتلاشى برؤيتهم؟ ثم ذكر حديث قول النار للمؤمن: جُز... إلخ.
ويدل على أن هذه الحالة إنما هي بعد دخولهم الجنة، قوله تعالى: {وهم فيما اشتهت أَنفُسُهُم} من النعيم {خالدون}: دائمون، والشهوة: طلب النفس للذة. وهو بيان لفوزهم بالمطالب، إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب، أي: دائمون في غاية التنعم، {لا يحزنهم الفزعُ الأكبر}، وهو القيام من القبور عند صيحة البعث، بدليل قوله: {وتتلقاهم الملائكةُ}. قال ابن عباس: «تتلقاهم الملائكة بالرحمة، عند خروجهم من القبور»، قائلين: {هذا يومُكم الذي كنتم تُوعدون} بالكرامة والثواب، والنعيم المقيم فيه، أي: بعد دخولكم الجنة.
وقال الحسن: الفزع الأكبر: الانصراف إلى النار. وعن الضحاك: حين يُطبق على أهل النار. وقيل: حين نفخة الصعق، وقيل: حين يُذبح الموت.
قلت: من سبقت له الحسنى ينجو من جميعها. وقيل: تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة، مُهنئين لهم قائلين: {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} في الدنيا، ويُبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعات. وهذا، كما ترى، صريح في أن المراد بالذين سبقت لهم الحسنى: كافةُ المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة، لا من ذكر؛ من المسيح، وعُزير، والملائكة، كما قيل. قاله أبو السعود، قلت: وقد يجاب بأنها نزلت في شأنهم وتعم غيرهم؛ لأن سبب النزول لا يخصص. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال الجنيد رضي الله عنه: {إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى} أي: سبقت لهم منا العناية في البداية، فظهرت لهم الولاية في النهاية. اهـ. {أولئك عنها} أي: عن نار القطيعة، وهي أغيار الدنيا، مُبعدون، لا يسمعون حسيسها، ولا ما يقع فيها من الهرج والفتن، لغيبتهم عنها بالكلية في الشغل بالله تعالى، فهم فيما اشتهت أنفسهم؛ من لذة الشهود، والقُرب من الملك الودود، خالدون دائمون، لا يحزنهم الفزع الأكبر في الدنيا والآخرة، وتتلقاهم الملائكة بالبُشرى بالوصول، هذا يومكم الذي كنتم توعدون، وهو يوم ملاقاة الحبيب والعكوف في حضرة القريب، عند مليك مقتدر. منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنّه وكرمه.


قلت: {يوم}: ظرف لاذكر، أو لقوله: {لا يحزنهم الفزع}، أو لتتلقاهم. والسجل: الصحيفة، والكتاب: مصدر، و{كما بدأنا}: منصوب بمضمر، يُفسره ما بعده، و{ما}: موصولة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر {يوم نَطْوِي السماءَ}؛ وذلك يوم الحشر والناس في الموقف، فتجمع وتُكوّر وتُطوى {كطَيِّ السِّجِلِّ}؛ الصحيفة {للكتاب} أي: لأجل الكتابة فيها؛ لأن الكاتب يطوي الصحيفة على اثنين؛ ليكتب فيها. فاللام للتعليل، أو بمعنى على، أي: كطي الصحيفة على الكتابة التي فيها، لتُصان، وقرأ أبو جعفر: {تُطوى}؛ بالبناء للمفعول. وذلك بمحو رسومها وتكوير نجومها وشمسها وقمرها. وأصل الطي: الدرج، الذي هو ضد النشر. وقرأ الأخوان وحفص: {للكُتُبِ} بالجمع، أي: للمكتوبات، أي: كطي الصحيفة؛ لأجل المعاني الكثيرة التي تكتب فيها، أو كطيها عليها؛ لتُصان. فالكتاب أصله مصدر، كالبناء، ثم يوقع على المكتوب. وقيل: السجل: ملك يطوي كتب ابن آدم، إذا رفعت إليه، فالكتاب، على هذا، اسم للصحيفة المكتوب فيها، والطي مضاف إلى الفاعل، وعلى الأول: إلى المفعول.
{كما بدأنا أول خَلقٍ نُعيده} أي: نعيد ما خلقنا حين نبعثهم، كما بدأناهم أول مرة، فالتنوين في {خَلقٍ} مثله في قولك: أول رجلٍ جاءني، تريد أول الرجال والتقدير: كما بدأنا أول الخلائق، نعيدهم حفاةً عراة غُرلاً. قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُمْ تَحْشَرُونَ يَوْمَ القيَامَة حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً. وأول مَنْ يُكْسَى إبْرَاهِيمُ خليلُ الله»، أي: لأنه جرد في ذات الله، فقالت عائشة- رضي الله عنها-: واسوءتاه! فلا يحتشم الناس بعضهم من بعض؟ فقال: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يُغنيه» ثم قرأ- عليه الصلاة والسلام-: {كما بدأنا أول خلق نعيده}.
كما بدأناه من الماء نعيده كيوم ولدته أمه. قلت: قد استدل بعضهم، بظاهر الآية والحديث، أن أهل الجنة ليس لهم أسنان، ولا دليل فيه؛ لأن المقصود من الآية: الاستدلال على كمال قدرته تعالى، وعلى البعث الذي تُنكره الكفرة، لا بيان الهيئة، وعدمُ وجودها نقصان، ولا نقص في الجنة.
ثم أكد الإعادة بقوله: {وعدًا علينا} أي: نُعيده وعدًا، فهو مصدر مؤكد لغير فعله؛ بل لِمَا في {نعيده} من معنى العِدة، أي: وعدنا ذلك وعدًا واجبًا علينا إنجازه؛ لأنا لا نُخلف الميعاد، {إِنا كنا فاعلين} لما ذكرنا لا محالة، فاستعدوا له، وقدِّموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال. وبالله التوفيق.
الإشارة: إذا أشرقت على القلب شموسُ العرفان، انطوت عن مشهده وجودُ الأكوان، وأفضى إلى فضاء العيان، فلا سماء تظله ولا أرض تحمله، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه:
لقد تجلى ما كان مخبى *** والكون كُلٌّ طويت طي


يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد كتبنا في الزَّبور} كتاب داود عليه السلام، {من بعْدِ الذِّكْرِ}: التوراة، أو اللوح المحفوظ، {أنَّ الأرض} أي: جنس الأرض، يعني: مشارقها ومغاربها، {يرثُها عبادي الصالحون} وهم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الآية ثناء عليهم وبشارة لهم، وإخبار بظهور غيب تحقق ظهوره في الوجود؛ مِن فَتْح الله على هذه الأمة مشارقَ الأرض ومغاربها، كقوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النُّور: 55]. وقال القشيري: على قوله: {عبادي الصالحون}: هم أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- وهم بجملتهم قوم صالحون لنعمته، وهم المطيعون، وآخرون صالحون لرحمته وهم العاصون. اهـ.
قال في الحاشية الفاسية: والظاهر أن حديث: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»، مفسر للآية، وموافق لوعدها. قيل: وهذه الطائفة مُفْتَرَقَةً من أنواع المؤمنين، ممن فيه عائدة على الدين ونفع له؛ من شجعان مقاتلين، وفقهاء ومحدِّثين، وزهاد وصالحين، وناهين وآمرين بالمعروف. اهـ. قلت: وعارفين متمكنين، علماء بالله ربانيين. ثم قال: وغير ذلك من أنواع أهل الحسنى، ولا يلزم اجتماعهم، بل يكونون متفرقين في أقطار. اهـ. قلت: وفيه نظر؛ لأن مراد الآية الأمة كلها، كما قال القشيري، ومراد الحديث بعضها، فلا يليق أن يكون تفسيرًا لها، وهي أعم منه. وقيل: المراد بالأرض: أرض الشام، وقيل: أرض الجنة.
ثم قال تعالى: {إِنَّ في هذا} أي: ما ذكر في السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة، والوعد والوعيد، والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة، {لبلاغًا} أي: كفاية، أو سبب بلوغ إلى البغية، من رضوان الله تعالى، ومحبته، وجزيل ثوابه، فمن تبع القرآن وعمل به، وصل إلى ما يرجو من الثواب العظيم، فالقرآن زادُ الجنة كبلاغ المسافر، فهو بلاغ وزاد {لقومٍ عابدين} أي: لقومٍ همتُهُم العبادة دون العادة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد أورث الله أرضه وبلاده لأهل التوجه إلى الله، والإقبال عليه. فوراثة كل أحد على قدر توجهه وإقباله على مولاه. والمراد بالوراثة: التصرف بالهمة ونفوذ الكلمة في صلاحَ الدين وهداية المخلوقين، وهم على قسمين: قسم يتصرف في ظواهر الخلق بإصلاح ظواهرهم، وهم العلماء الأتقياء، فهم يُبلغون الشرائع والأحكام، لإصلاح نظام الإسلام، وقد تقدم تفصيلهم في سورة التوبة عند قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ...} [التّوبَة: 122] إلخ، وقسم يتصرفون في بواطنهم؛ وهم أهل التصرف العارفون بالله، على اختلاف مراتبهم؛ من غوث وأقطاب وأوتاد، وأبدال، ونجباء، ونقباء، وصالحين، وشيوخ مربين، فهم يُعالجون بواطن الناس بالتربية بالهمة والحال والمقال، حتى يتطهر مَنْ يصحبهم من الرذائل، ويتحلى بأنواع الفضائل، فيتأهل لحضرة القدس ومحل الأنس. وهؤلاء حازوا الوراثة النبوية كلها، كما قال ابن البنا في مباحثه:
تَبِعَهُ العَالِم في الأقوال *** والعابد الزاهد في الأفعال
وبهما الصوفي في السباق *** لكنه قد زاد بالأخلاق

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11